الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير} قيل: إنها نزلت في قوم من أهل الصفة تمنوا سعة الرزق. وقال خاب بن الأرت: فينا نزلت؛ نظرنا إلى أموال بني النضير وقريظة وبني قينقاع فتمناها فنزلت. }لو بسط}معناه وسع. وبسط الشيء نشره. وبالصاد أيضا. }لبغوا في الأرض}طغوا وعصوا. وقال ابن عباس: بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ودابة بعد دابة ومركبا بعد مركب وملبسا بعد ملبس. وقيل: أراد لو أعطاهم الكثير لطلبوا ما هو أكثر منه، لقوله: يعني أنهم أحيوا فحدثوا أنفسهم بالبغي والتغابن. أومن البغي وهو البذخ والكبر؛ أي لتكبروا في الأرض وفعلوا ما يتبع الكبر من العلو فيها والفساد. }ولكن ينزل بقدر ما يشاء}أي ينزل أرزاقهم بقدر ما يشاء لكفايتهم وقال مقاتل}ينزل بقدر ما يشاء}يجعل من يشاء غنيا ومن يشاء فقيرا. قال علماؤنا: أفعال الرب سبحانه لا تخلو عن مصالح وإن لم يجب على الله الاستصلاح؛ فقد يعلم من حال عبد أنه لو بسط عليه قاده ذلك إلى الفساد فيزوي عنه الدنيا مصلحة له. فليس ضيق الرزق هوانا ولا سعة فضيلة؛ وهد أعطى أقواما مع علمه أنهم يستعملونه في الفساد، ولو فعل بهم خلاف ما فعل لكانوا أقرب إلى الصلاح. والأمر على الجملة مفوض إلى مشيئته، ولا يمكن التزام مذهب الاستصلاح في كل فعل من أفعال الله تعالى. {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد وأبو عمرو ويعقوب وابن وثاب والأعمش وغيرهما والكسائي }ينزل}مخففا. الباقون بالتشديد. وقرأ ابن وثاب أيضا والأعمش وغيرهما }قنطوا}بكسر النون؛ وقد تقدم جميع هذا. والغيث المطر؛ وسمي الغيث غيثا لأنه يغيث الخلق. وقد غاث الغيث الأرض أي أصابها. وغاث الله البلاد يغيثها غيثا. وغيثت الأرض تغاث غيثا فهي أرض مغيثة ومغيوثة. وعن الأصمعي قال: مررت ببعض قبائل العرب وقد مطروا فسألت عجوزا منهم: أتاكم المطر؟ فقالت: غثنا ما شئنا غيثا، أي مطرنا. وقال ذو الرمة: قاتل الله أمة بني فلان ما أفصحها ! قلت لها كيف كان المطر عندكم ؟ فقالت: غثنا ما شئنا. ذكر الأول الثعلبي والثاني الجوهري. وربما سمي السحاب والنبات غيثا. والقنوط الإياس؛ قاله قتادة وغيره. قال قتاده: ذكر أن رجلا قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، قحط المطر وقل الغيث وقنط الناس؟ فقال: مطرتم إن شاء الله، ثم قرأ}وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا}. والغيث ما كان نافعا في وقته، والمطر قد يكون نافعا وضارا في، وقته وغير وقته؛ قال الماوردي. }وينشر رحمته}قيل المطر؛ وهو قول السدي. وقيل ظهور الشمس بعد المطر؛ ذكره المهدوي. وقال مقاتل: نزلت في حبس المطر عن أهل مكة سبع سنين حتى قنطوا، ثم أنزل الله المطر. وقيل: نزلت في الأعرابي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المطر يوم الجمعة في خبر الاستسقاء؛ ذكره القشيري، والله أعلم. }وهو الولي الحميد}}الولي}الذي ينصر أولياءه. }الحميد}المحمود بكل لسان. {ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} قوله تعالى}ومن آياته خلق السماوات والأرض}أي علاماته الدالة على قدرته. }وما بث فيهما من دابة}قال مجاهد: يدخل في هذا الملائكة والناس، وقد قال تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير، وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} قوله تعالى}وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}قرأ نافع وابن عامر }بما كسبت}بغير فاء. الباقون }فبما}بالفاء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم للزيادة في الحرف والأجر. قال المهدوي: إن قدرت أن }ما}الموصولة جاز حذف الفاء وإثباتها، والإثبات أحسن. وإن قدرتها التي للشرط لم يجز الحذف عند سيبويه، وأجازه الأخفش واحتج بقوله تعالى وقال مُرَّة الهمذاني: رأيت على ظهر كف شريح قرحه فقلت: يا أبا أمية، ما هذا؟ قال: هذا بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير. وقال ابن عون: إن محمد بن سيرين لما ركبه الدين اغتم لذلك فقال: إني لا أعرف هذا الغم، هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة. وقال أحمد بن أبي الحواري قيل لأبى سليمان الداراني: ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم ؟ فقال: لأنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم، قال الله تعالى}وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}. وقال عكرمة: ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا بها أو لينال درجة لم يكن يوصله إليها إلا بها. قلت: ونظير هذه الآية في المعنى قوله تعالى {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام، إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} قوله تعالى}ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام}أي ومن علاماته الدالة على قدرته السفن الجارية في البحر كأنها من عظمها أعلام. والأعلام: الحبال، وواحد الجواري جارية، قال الله تعالى {إن يشأ يسكن الريح}كذا قرأه أهل المدينة }الرياح}بالجمع. }فيظللن رواكد على ظهره}أي فتبقى السفن سواكن على ظهر البحر لا تجري. ركد الماء ركودا سكن. وكذلك الريح والسفينة، والسفينة، والشمس إذا قام قائم الظهيرة. وكل ثابت في مكان فهو راكد. وركد الميزان استوى. وركد القوم هدؤوا. والمراكد: المواضع التي يركد فيها الإنسان وغيره. وقرأ قتادة }فيظللن}بكسر اللام الأولى على أن يكون لغة، مثل ضللت أضل. وفتح اللام وهي اللغة المشهورة. }إن في ذلك لآيات}أي دلالات وعلامات }لكل صبار شكور}أي صبار على البلوى شكور على النعماء. قال قطرب: نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطي شكر وإذا أبتلي صبر. قال عون بن عبدالله: فكم من منعم عليه غير شاكر، وكم من مبتلى غير صابر. {أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير، ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص} قوله تعالى}أو يوبقهن بما كسبوا}أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيوبق السفن أي يغرقهن بذنوب أهلها. وقيل: يوبق أهل السفن. }ويعف عن كثير}من أهلها فلا يغرقهم معها؛ حكاه الماوردي. وقيل}ويعفو عن كثير}أي ويتجاوز عن كثير من الذنوب فينجيهم الله من الهلاك. قال القشري: والقراءة الفاشية }ويعف}بالجزم، وفيها إشكال؛ لأن المعنى: إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكد ويهلكها بذنوب أهلها، فلا يحسن عطف }يعف}على هذا لأنه يصير المعنى: إن يشأ يعف، وليس المعنى ذلك بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة فهو إذا عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى. وقد قرأ قوم }ويعفو}بالرفع، وهي جيدة في المعنى. }ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص}يعني الكفار؛ أي إذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أو بقيت السفن رواكد علموا أنه لا ملجأ له لهم سوى الله، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخلصون له العبادة وقد مضى هذا المعنى في غير موضع ومضى القول في ركوب البحر في }البقرة}وغيرها بما يغني عن إعادته. وقرأ نافع وابن عامر }ويعلم}بالرفع، الباقون بالنصب. فالرفع على الاستئناف بعد الشرط والجزاء؛ كقوله في سورة التوبة ويمسك بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس سنام وهذا معنى قول الفراء، قال: ولو جزم }ويعلم}جاز. وقال الزجاج: نصب على إضمار }أن}لأن قبلها جزما؛ تقول: ما تصنع أصنع مثله وإن شئت قلت. وأكرمك بالجزم. وفي بعض المصاحف }وليعلم}. وهذا يدل على أن النصب بمعنى: وليعلم أو لأن يعلم. وقال أبو علي والمبرد: النصب بإضمار }أن}على أن يجعل الأول في تقدير المصدر؛ أي ويكون منه عفو وأن يعلم فلما حمله. على الاسم أضمر أن، كما تقول: إن تأتني وتعطيني أكرمك، فتنصب تعطيني؛ أي إن يكن منك إتيان وأن تعطيني. ومعنى }من محيص}أي من فرار ومهرب؛ قاله قطرب السدي: من ملجأ وهو مأخوذ من قولهم: خاص به البعير حيصة إذا رمى به. ومنه قولهم: فلان يحيص عن الحق أي يميل عنه. {فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} قوله تعالى}فما أوتيتم من شيء}يريد من الغنى والسعة في الدنيا. }فمتاع الحياة الدنيا}أي فإنما هو متاع في أيام قليلة تمضى وتذهب؛ فلا ينبغي أن يتفاخر به. والخطاب للمشركين. }وما عند الله خير وأبقى}يريد من الثواب على الطاعة }للذين آمنوا}صدقوا ووحدوا }وعلى ربهم يتوكلون}نزلت في أبي بكر الصديق حين أنفق جميع ماله في طاعة الله فلامه الناس. وجاء في الحديث أنه: أنفق ثمانين ألفا. {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون} قوله تعالى}والذين يجتنبون}الذين في موضع جر معطوف على قوله}خير وأبقى للذين آمنوا}أي وهو للذين يجتنبون }كبائر الإثم}قد مضى القول في الكبائر في }النساء}. وقرأ حمزة والكسائي }كبائر الإثم}والواحد قد يراد به الجمع عند الإضافة؛ كقوله تعالى مازال يظلمني وأحرمه حتى بكيت له من الظلم {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} قوله تعالى}والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة}قال عبدالرحمن بن زيد: هم الأنصار بالمدينة؛ استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثنى عشر نقيبا منهم قبل الهجرة. }وأقاموا الصلاة}أي أدوها لمواقيتها بشروطها وهيئاتها. }وأمرهم شورى بينهم}أي يتشاورون في الأمور. والشورى مصدر شاورته؛ مئل البشرى والذكرى ونحوه. فكانت الأنصار قبل قدوم النبي صلى إليهم إذا أرادوا أمرا تشاوروا فيه ثم عملوا عليه؛ فمدحهم الله تعالى به؛ قاله النقاش. وقال الحسن: أي إنهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون؛ فمدحوا باتفاق كلمتهم. قال الحسن: ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم. وقال الضحاك: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له. وقيل تشاورهم فيما يعرض لهم؛ فلا يستأثر بعضهم بخبر دون بعض. وقال ابن العربي: الشورى ألفة للجماعة ومسبار للعقول وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا. وقد قال الحكيم: ولا تجعل الشورى عليك غضاضة فإن الخوافي قوة للقوادم فمدح الله المشاورة في الأمور بمدح القوم الذين كانوا يمتثلون ذلك. وقد كان النبي صلى الله سبحانه يشاور أصحابه في الآراء المتعلقة بمصالح الحروب؛ وذلك في الآراء كثير. ولم يكن يشاورهم في الأحكام؛ لأنها منزلة من عند الله على جميع الأقسام من الفرض والندب والمكروه والمباح والحرام. فأما الصحابة بعد استئثار الله تعالى به علينا فكانوا يتشاورون في الأحكام ويستنبطونها من الكتاب والسنة. وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص عليها حتى كان فيها بين أبي بكر والأنصار ما سبق بيانه. وقال عمر رضي الله عنه: نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا وتشاوروا في أهل الردة فاستقر رأي أبي بكر على القتال. وتشاوروا في الجد وميراثه، وفي حد الخمر وعدده. وتشاوروا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحروب؛ حتى شاور عمر الهرمزان حين وفد عليه مسلما في المغازي، فقال له الهرمزان: مثلها ومئل من فيها من الناس من عدو المسلمين مثل طائر له ريش وله جناح فإن كسر أحد الجناحين نهضت الرجلان بجناح والرأس وإن كسر الجناح الآخر نهضت الرجلان والرأس وإن شدخ الرأس ذهب الرجلان والجناحان. والرأس كسرى والجناح الواحد قيصر والآخر فارس؛؛ فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى... وذكر الحديث. وقال بعض العقلاء: ما أخطأت قط ! إذا حزبني أمر شاورت قومي ففعلت الذي يرون؛ فإن أصبت فيهم المصيبون، وإن أخطأت فهم المخطئون. قد مضى في }آل عمران}ما تضمنته الشورى من الأحكام عند قوله تعالى {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين، ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم، ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} قوله تعالى}والذين إذا أصابهم البغي}أي أصابهم بغي المشركين. قال ابن عباس: وذلك أن المشركين بغوا على رسول الله صلى الله عيله وسلم وعلى أصحابه وآذوهم وأخرجوهم من مكة فأذن الله لهم بالخروج ومكن لهم في الأرض ونصرهم على من بغى عليهم؛ وذلك قوله في سورة الحج قلت: هذا حسن، وهكذا ذكر الكيا الطبري في أحكامه قال: قوله تعالى}والذين إذا أصابهم البغي ينتصرون}يدل ظاهره على أن الانتصار في هذا الموضع أفضل؛ ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله سبحانه وتعالى وإقام الصلاة؛ وهو محمول على ما ذكر إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق؛ فهذا فيمن تعدى وأصر على ذلك. والموضع المأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادما مقلعا. وقد قال عقيب هذه الآية}ولمن أنتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل}. ويقتضي ذلك إباحة الانتصار لا الأمر به، وقد عقبه بقوله}ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}. وهو محمول على الغفران عن غير المصر، فأما المصر على البغي والظلم فالأفضل الانتصار منه بدلالة الآية التي قبلها. وقيل: أي إذا أصابهم البغي تناصروا عليه حتى يزيلوه عنهم ويدفعوه؛ قال ابن بحر. وهو راجع إلى العموم على ما ذكرنا. قوله تعالى}وجزاء سيئة سيئة مثلها}قال العلماء: جعل الله المؤمنين صنفين؛ صنف يعفون عن الظالم فبدأ بذكرهم في قول قوله تعالى}فمن عفا وأصلح}قال ابن عباس: من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو }فأجره على الله}أي إن الله يأجره على ذلك. قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة وقد مضى في }آل عمران}في هذا ما فيه كفاية، والحمد لله. وذكر أبو نعيم الحافظ عن علي بن الحسين رضي الله عنهم قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيكم أهل الفضل ؟ فيقوم ناس من الناس؛ فيقال: انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة؛ فيقولون إلى أين ؟ فيقولن إلى الجنة؛ قالوا قبل الحساب ؟ قالوا من أنتم ؟ قالوا أهل الفضل؛ قالوا وما كان فضلكم ؟ قالوا كنا إذا جهل علينا حلمنا وإذا ظلمنا صبرنا وإذا سيء إلينا عفونا؛ قالوا ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. وذكر الحديث. }إنه لا يحب الظالمين}أي من بدأ بالظلم؛ قاله سعيد بن جبير. وقيل: لا يحب من يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحد؛ قاله ابن عيسى. قوله تعالى}ولمن انتصر بعد ظلمه}أي المسلم إذا انتصر من الكافر فلا سبيل إلى لومه، بل يحمد على ذلك مع الكافر. ولا لوم إن أنتصر الظالم من المسلم؛ فالانتصار من الكافر حتم، ومن المسلم مباح، والعفو مندوب }فأولئك ما عليهم من سبيل}دليل على أن له أن يستوفي ذلك بنفسه. وهذا ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون قصاصا في بدن يستحقه آدمي، فلا حرج عليه إن استوفاه من غير عدوان وثبت حقه عند الحكام، لكن يزجره الإمام في تفوته بالقصاص لما فيه من الجرأة على سفك الدم. وإن كان حقه غير ثابت عند الحاكم فليس عليه فيما بينه وبين الله حرج؛ وهو الظاهر مطالب وبفعله مؤاخذ ومعاقب. القسم الثاني: أن يكون حد الله تعالى لاحق لآدمي فيه كحد الزنى وقطع السرقة؛ فإن لم يثبت ذلك عند حاكم أخذ به وعوقب عليه، وإن ثبت عند حاكم نظر، فإن كان قطعا في سرقة سقط به الحد لزوال العضو المستحق قطعه، ولم يجب عليه في ذلك حق لأن التعزير أدب، وإن كان جلدا لم يسقط به الحد لتعديه مع بقاء محله فكان مأخوذا بحكمه. القسم الثالث: أن يكون حقا في مال؛ فيجوز لصاحبه أن يغالب على حقه حتى يصل إليه إن كان ممن هو عالم به، لان كان غير عالم نظر، فإن أمكنه الوصول إليه عند المطالبة لم يكن له الاستسرار بأخذه. لان كان لا يصل إليه بالمطالبة لجحود من هو عليه من عدم بينة تشهد له ففي جواز استسراره بأخذه مذهبان: أحدهما: جوازه؛ وهو قول مالك والشافعي. الثاني: المنع؛ وهو قول أبي حنيفة. قوله تعالى}إنما السبيل على الذين يظلمون الناس}أي بعدوانهم عليهم؛ في قول أكثر العلماء. وقال ابن جريج: أي يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم. }ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم}أي في النفوس والأموال؛ في قول الأكثرين. وقال مقاتل: بغيهم عملهم بالمعاصي. وقال أبو مالك: هو ما يرجوه كفار قريش أن يكون بمكة غير الإسلام دينا. وعلى هذا الحد قال ابن زيد: إن هذا كله منسوخ بالجهاد، لان هذا للمشركين خاصة. وقول قتادة: إنه عام؛ وكذا يدل ظاهر الكلام. وقد بيناه والحمد لله. قال ابن العربي: هذه الآية: في مقابلة الآية المتقدمة في }براءة}وهي قوله واختلف علماؤنا في السلطان يضع على أهل بلد مالا معلوما بأخذهم به ويؤدونه على قدر أموالهم؛ هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل، وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم. فقيل لا؛ وهو قول سحنون من علمائنا. وقيل: نعم، له ذلك إن قدر على الخلاص؛ وإليه ذهب أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي ثم المالكي. قال: ويدل عليه قول مالك في الساعي يأخذ من غنم أحد الخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب إنها مظلمة على من أحذت له لا يرجع على أصحابه بشيء. قال: ولست آخذ بما روي عن سحنون؛ لأن الظلم لا أسوة فيه، ولا يلزم أحد أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يضاعف الظلم على غيره، والله سبحانه يقول}إنما السبيل على الذين يظلمون الناس}. واختلفت العلماء في التحليل؛ فكان ابن المسيب لا يحلل أحدا من عرض ولا مال. وكان سليمان بن يسار ومحمد بن سيرين يحللان من العرض والمال. ووأى مالك التحليل من المال دون العرض. روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك وسئل عن قول سعيد بن المسيب }لا أحلل أحدا}فقال: ذلك يختلف؛ فقلت له يا أبا عبدالله، الرجل يسلف الرجل فيهلك ولا وفاء له؟ قال: أرى أن يحلله وهو أفضل عندي؛ فان الله تعالى: يقول قوله تعالى}ولمن صبر وغفر}أي صبر على الأذى و}غفر}أي ترك الانتصار لوجه الله تعالى؛ وهذا فيمن ظلمه مسلم. ويمكى أن رجلا سب رجلا في مجلس الحسن رحمه الله فكان المسبوب يكظم ويعرق فيمسح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية؛ فقال الحسن: عقلها والله ! وفهمها إذ ضيعها الجاهلون. وبالجملة العفو مندوب إليه، ثم قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال فيرجع ترك العفو مندوبا إليه كما تقدم؛ وذلك إذا أحتيج إلى كف زيادة البغي وقطع مادة الأذى، {ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل} قوله تعالى}ومن يضلل الله}أي يخذله }فما له من ولي من بعده}هذا فيمن أعرض عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما دعاه إليه من الإيمان بالله والمودة في القربي، ولم يصدقه في البعث وأن متاع الدنيا قليل. أي من أضله الله عن هذه الأشياء فلا يهديه هاد. }وترى الظالمين}أي الكافرين. }لما رأوا العذاب}يعني جهنم. وقيل رأوا العذاب عند الموت. }يقولون هل إلى مرد من سبيل}يطلبون أن يردوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله فلا يجابون إلى ذلك. {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم} قوله تعالى}وتراهم يعرضون عليها}أي على النار لأنها عذابهم؛ فكنى عن العذاب المذكور بحرف التأنيث لأن ذلك العذاب هو النار إن شئت جهنم، ولو راعى اللفظ لقال عليه. ثم قيل: هم المشركون جميعا يعرضون على جهنم عند انطلاقهم إليها؛ قال الأكثرون. وقيل: آل فرعون خصوصا، تحبس أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح؛ فهو عرضهم عليها؛ قاله ابن مسعود. وقيل: إنهم عامة المشركين، تعرض عليهم ذنوبهم في قبورهم، ويعرضون على العذاب في قبورهم؛ وهذا معنى قول أبي الحجاج. }خاشعين من الذل}ذهب بعض القراء إلى الوقف على }خاشعين}. وقوله}من الذل}متعلق بـ }ينتظرون}. وقيل: متعلق بـ }خاشعين}. والخشوع الانكسار والتواضع. ومعنى }ينظرون من طرف خفي}أي لا يرفعون أبصارهم للنظر رفعا تاما؛ لأنهم ناكسو الرؤوس. والعرب تصف الذليل بغض الطرف، كما يستعملون في ضده حديد النظر إذا لم يتهم بريبة فيكون عليه منها غضاضة. وقال مجاهد}من رف خفي}أي ذليل، قال: وإنما ينظرون بقلوبهم لأنهم يحشرون عميا، وعين القلب طرف خفي. وقال قتادة والسدي والقرظي ومعيد بن جبير: يسارقون النظر من شدة الخوف. وقيل: المعنى ينظرون من عين ضعيفة النظر. وقال يونس}من}بمعنى الباء؛ أي ينظرون بطرف خفي، أي ضعيف من الذل والخوف، ونحوه عن الأخفش. وقال ابن عباس: بطرف ذابل ذليل. وقيل: أي يفزعون أن ينظروا إليها بجميع أبصارهم لما يرون من أصناف العذاب. قوله تعالى}وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة}أي يقول المؤمنون في الجنة لما عاينوا ما حل بالكفار إن الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء فإنهم خسروا أنفسهم لأنهم في العذاب المخلد، وخسروا أهليهم لأن الأهل إن كانوا في النار فلا انتفاع بهم، وإن كانوا في الجنة فقد حيل بينه وبينهم. وقيل: خسران الأهل أنهم لو آمنوا لكان لهم أهل في الجنة من الحور العين. {وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل} قوله تعالى}وما كان لهم من أولياء}أي أعوانا ونصراء }ينصرونهم من دون الله}أي من عذابه }ومن يضلل الله فما له من سبيل}أي طريق يصل به إلى الحق في الدنيا والجنة في الآخرة لأنه قد سدت عليه طريق النجاة. {استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير} قوله تعالى}استجيبوا لربكم}أي أجيبوه إلى ما دعاكم إليه من الإيمان به والطاعة. استجاب وأجاب بمعنى؛ وقد تقدم. }من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله}يريد يوم القيامة؛ أي لا يرده أحد بعد ما حكم الله به وجعله أجلا ووقتا. }ما لكم من ملجأ يومئذ}أي من ملجأ ينجيكم من العذاب. }وما لكم من نكير}أي من ناصر ينصركم؛ قال مجاهد. وقيل: النكير بمعنى المنكر؛ كالأليم بمعنى المؤلم؛ أي لا تجدون يومئذ منكرا لما ينزل بكم من العذاب؛ حكاه ابن أبى حاتم؛ وقال الكلبي. الزجاج: معناه أنهم لا يقدرون أن ينكروا الذنوب التي يوقفون عليها. وقيل}من نكير}أي إنكار ما ينزل بكم من العذاب، والنكير والإنكار تغيير المنكر. {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور} قوله تعالى}فإن أعرضوا}أي عن الإيمان }فما أرسلناك عليهم حفيظا}أي حافظا لأعمالهم حتى تحاسبهم عليها. وقيل: موكلا بهم لا تفارقهم دون أن يؤمنوا؛ أي ليس لك إكراههم على الإيمان. }إن عليك إلا البلاغ}وقيل: نسخ هذا بآية القتال. }وإنا إذا أذقنا الإنسان}الكافر. }منا رحمة}رخاء وصحة. }فرح بها}بطر بها. }وإن تصبهم سيئة}بلاء وشدة. }بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور}أي لما تقدم من النعمة فيعدد المصائب وينسى النعم. {لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير} قوله تعالى}لله ملك السماوات والأرض}ابتداء وخبر. }يخلق ما يشاء}من الخلق. }يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور}قال أبو عبيدة وأبو مالك ومجاهد والحسن والضحاك: يهب لمن يشاء إناثا لا ذكور معهن، ويهب لمن يشاء ذكورا لا إناثا معهم؛ وأدخل الألف واللام على الذكور دون الإناث لأنهم أشرف فميزهم بسمة التعريف. وقال واثلة بن الأسقع: إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر، وذلك أن الله تعالى قال}يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور}فبدأ بالإناث. }أو يزوجهم ذكرانا وإناثا}قال مجاهد: هو أن تلد المرأة غلاما ثم تلد جارية ثم تلد غلاما ثم تلد جارية. وقال محمد ابن الحنفية: هو أن تلد توأما، غلاما وجارية، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا. قال القتبي: التزويج ها هنا هو الجمع ببن البنين والبنات؛ تقول العرب: زوجت إبلي إذا جمعت بين الكبار والصغار. }ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير}أي لا يولد له؛ يقال: رجل عقيم، وامرأة عقيم. وعقمت المرأة تعقم عقما؛ مثل حمد يحمد. وعقمت تعقيم، مثل عظم يعظم. وأصله القطع، ومنه الملك العقيم، أي تقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق خوفا على الملك. وريح عقيم؛ أي لا تلقح سحابا ولا شجرا. ويوم القيامة يوم عقيم؛ لأنه لا يوم بعده. ويقال: نساء عقم وعقم؛ قال الشاعر: وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في الأنبياء خصوصا وإن عم حكمها. وهب للوط الإناث ليس معهن ذكر، ووهب لإبراهيم الذكور ليس معهم أنثى، ووهب لإسماعيل وإسحاق الذكور والإناث، وجعل عيسى ويحيى عقيمين؛ ونحوه عن ابن عباس وإسحاق بن بشر. قال إسحاق: نزلت في الأنبياء، ثم عمت. }يهب لمن يشاء إناثا}يعني لوطا عليه السلام، لم يولد له ذكر وإنما ولد له ابنتان. }ويهب لمن يشاء الذكور}يعني إبراهيم عليه السلام لم يولد له أنثى بل ولد له ثمانية ذكور. }أو يزوجهم ذكرانا وإناثا}يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد له أربعة بنين وأربع بنات. }ويجعل من يشاء عقيما}يعني يحيى بن زكريا عليهما السلام؛ لم يذكر عيسى. ابن العربي: قال علماؤنا }يهب لمن يشاء إناثا}يعني لوطا كان له بنات ولم يكن له ابن. }ويهب لمن يشاء الذكور}يعني إبراهيم، كان له بنون ولم يكن له بنت. وقول}أو يزوجهم ذكرانا وإناثا}يعني آدم، كانت حواء تلد له في كل بطن توأمين ذكرا وأنثى. ويزوج الذكر من هذا البطن من الأنثى من البطن الآخر، حتى أحكم الله التحريم في شرع نوح صلى الله عليه وسلم. وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم كان له ذكور وإناث من الأولاد: القاسم والطيب والطاهر وعبدالله وزينب وأم كلثوم ورقية وفاطمة؛ وكلهم من خديجة رضي الله عنها، وإبراهيم وهو من مارية القبطية. وكذلك قسم الله الخلق من لدن آدم إلى زماننا هذا، إلى أن تقوم الساعة، على هذا التقدير المحدود بحكمته البالغة ومشيئته النافذة؛ ليبقى النسل، ويتمادى الخلق، وينفذ الوعد، ويحق الأمر، وتعمر الدنيا، وتأخذ الجنة وجهنم كل واحدة ما يملؤها ويبقى. ففي الحديث: قال ابن العربي: إن الله تعالى لعموم قدرته وشديد قوته يخلق الخلق ابتداء من غير شيء، وبعظيم لطفه وبالغ حكمته يخلق شيئا من شيء لا عن حاجة؛ فإنه قدوس عن الحاجات سلام عن الآفات، كما قال القدوس السلام؛ فخلق آدم من الأرض وخلق حواء من آدم وخلق النشأة من بينهما منهما مرتبا على الوطء كائنا عن الحمل موجودا في الجنين بالوضع؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: قلت: وهذا معنى حديث عائشة لا لفظه قال علماؤنا: كانت الخلقة مستمرة ذكرا وأنثى إلى أن وقع في الجاهلية الأولى الخنثى فأتي به فريض العرب ومعمرها عامر بن الظرب فلم يدر ما يقول فيه وأرجأهم عنه؛ فلما جن عليه الليل تنكر موضعه، وأقض عليه مضجعه، وجعل يتقلب ويتقلب، وتجيء به الأفكار وتذهب، إلى أن أنكرت خادمه حاله فقالت: ما بك؟ قال لها: سهرت لأمر قصدت به فلم أدر ما أقول فيه ؟ فقالت ما هو؟ قال لها: رجل له ذكر وفرج كيف يكون حاله في الميراث ؟ قالت له الأمة: ورثه من حيث يبول؛ فعقلها وأصبح فعرضها عليهم وانقلبوا بها راضين. وجاء الإسلام على ذلك فلم تنزل إلا في عهد علي رضي الله عنه فقضى فيها. وقد روى الفرضيون عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن مولود له قبل وذكر من أين يورث ؟ قال: من حيث يبول. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد أنكر قوم من رؤوس العوام وجود الخنثى، لأن الله تعالى قسم الخلق إلى ذكر وأنثى. قلنا: هذا جهل باللغة، وغباوة عن مقطع الفصاحة، وقصور عن معرفة سعة القدرة. أما قدرة الله سبحانه فإنه واسع عليم، وأما ظاهر القرآن فلا ينفي وجود الخنثى؛ لأن الله تعالى قال}لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء}. فهذا عموم مدح فلا يجوز تحصيصه؛ لأن القدرة تقتضيه. وأما قوله}يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما}فهذا إخبار عن الغالب في الموجودات، وسكت عن ذكر النادر لدخول تحت عموم الكلام الأول، والوجود يشهد له والعيان يكذب منكره، وقد كان يقرأ معنا برباط أبي سعيد على الإمام الشهيد من بلاد المغرب خنثى ليس له لحية وله ثديان وعنده جارية؛ فربك أعلم به، ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤال، وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله. {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم} احتج بهذه الآية من رأى فيمن حلف ألا يكلم رجلا فأرسل إليه رسولا أنه حانث، لأن المرسل قد سمي فيها مكلما للمرسل إليه؛ إلا أن ينوي الحالف المواجهة بالخطاب. قال ابن المنذر: واختلفوا في الرجل يحلف ألا يكلم فلانا فكتب إليه كتابا أوأرسل إليه رسولا؛ فقال الثوري: الرسول ليس بكلام. وقال الشافعي: لا يبين أن يحنث. وقال النخعي: والحكم في الكتاب يحنث. وقل له مالك: يحنث في الكتاب والرسول. وقال مرة: الرسول أسهل من الكتاب. وقال أبو عبيد: الكلام سوى الخط والإشارة. وقال أبو ثور: لا يحنث في الكتاب. قال ابن المنذر: لا يحنث في الكتاب والرسول. قلت: وهو قول مالك. قال أبو عمر: ومن حلف ألا يكلم رجلا فسلم عليه عامدا أو ساهيا، أو سلم على جماعة هو فيهم فقد حنث في ذلك كله عند مالك. وإن أرسل إليه رسولا أو سلم عليه في الصلاة لم يحنث. قلت: يحنث في الرسول إلا أن ينوي المشافهة؛ للآية، وهو قول مالك وابن الماجشون. وقد مضى في أول }سورة مريم}هذا المعنى عن علمائنا مستوفى، والحمد لله. {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} قوله تعالى}وكذلك أوحينا إليك}أي وكالذي أوحينا إلى الأنبياء من قبلك أوحينا إليك }روحا}أي نبوة؛ قاله ابن عباس. الحسن وقتادة: رحمة من عندنا. السدي: وحيا. الكلبي: كتابا. الربيع: هو جبريل. الضحاك: هو القرآن. وهو قول مالك بن دينار. وسماه روحا لأن فيه حياة من موت الجهل. وجعله من أمره بمعنى أنزل كما شاء على من يشاء من النظم المعجز والتأليف المعجب. ويمكن أن يحمل قوله قوله تعالى}ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان}أي لم تكن تعرف الطريق إلى الإيمان. وظاهر هذا يدل على أنه ما كان قبل الإيحاء متصفا بالإيمان. قال القشيري: وهو من مجوزات العقول، والذي صار إليه المعظم أن الله ما بعث نبيا إلا كان مؤمنا به قبل البعثة. وفيه تحكم، إلا أن يثبت ذلك بتوقيف مقطوع به. قال القاضي أبو الفضل عياض وأما عصمتهم من هذا الفن قبل النبوة فللناس فيه خلاف؛ والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شيء من ذلك. وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا؛ ونشأتهم على التوحيد والإيمان، بل على إشراق أنوار المعارف ونفحات ألطاف السعادة، ومن طالع سيرهم منذ صباهم إلى مبعثهم حقق ذلك؛ كما عرف من حال موسى وعيسى ويحيى وسليمان وغيرهم عليهم السلام. قال الله تعالى وقال بعضهم: لما ولد إبراهيم بعث الله إليه ملكا يأمره عن الله تعالى أن يعرفه بقلبه ويذكره بلسانه فقال: قد فعلت؛ ولم يقل أفعل؛ فذلك رشده. وقيل: إن إلقاء إبراهيم في النار ومحنته كانت وهو ابن ست عشره سنة. وإن ابتلاء إسحاق بالذبح وهو ابن سبع سنين. وأن استدلال إبراهيم بالكوكب والقمر والشمس كان وهو ابن خمس عشرة سنة. وقيل أوحي إلى يوسف وهو صبي عند ما هم إخوته بإلقائه في الجب بقوله تعالى وتكلم العلماء في نبينا صلى الله عليه وسلم؛ هل كان متعبدا بدين قبل الوحي أم لا؛ فمنهم من منع ذلك مطلقا وأحاله عقلا. قالوا: لأنه مبعد أن يكون متبوعا من عرف تابعا، وبنوا هذا على التحسين والتقبيح. وقالت فرقة أخرى: بالوقف في أمره عليه السلام وترك قطع الحكم عليه بشيء في ذلك، إذ لم يحل الوجهين منهما العقل ولا استبان عندها في أحدهما طريق النقل، وهذا مذهب أبي المعالي. وقالت فرقة ثالثة: إنه كان متعبدا بشرع من قبله وعاملا به؛ ثم اختلف هؤلاء في التعيين، فذهبت طائفة إلى أنه كان على دين عيسى فإنه ناسخ لجميع الأديان والملل قبلها؛ فلا يجوز أن يكون النبي على دين منسوخ. وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين إبراهيم؛ لأنه من ولده وهو أبو الأنبياء. وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين موسى؛ لأنه أقدم الأديان. وذهبت المعتزلة إلى أنه لا بد أن يكون على دين ولكن عين الدين غير معلومة عندنا. وقد أبطل هذه الأقوال كلها أئمتنا؛ إذ هي أقوال متعارضة وليس فيها دلالة قاطعة،وإن كان العقل يجوز ذلك كله. والذي يقطع به أنه عليه السلام لم يكن منسوبا إلى واحد من الأنبياء نسبة تقتضي أن يكون واحدا من أمته ومخاطبا بكل شريعته؛ بل شريعته مستقلة بنفسها مفتتحة من عند الله الحاكم جل وعز وأنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا بالله عز وجل، ولا سجد لصنم، ولا أشرك بالله، ولا زنى ولا شرب الخمر، ولا شهد السامر ولا حضر حلف المطر ولا حلف المطيبين؛ بل نزهه الله وصانه عن ذلك. فإن قيل: فقد روى عثمان بن أبي شيبة حديثا بسنده عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه أحدهما يقول لصاحبه: أذهب حتى تقوم خلفه، فقال الآخر: كيف أقوم خلفه وعهده باستلام الأصنام فلم يشهدهم بعد؟ فالجواب أن هذا حديث أنكره الإمام أحمد بن حنبل جدا وقال: هذا موضوع أوشبيه بالموضوع. وقال الدارقطني: إن عثمان وهم في إسناده، والحديث بالجملة منكر غير متفق على إسناده فلا يلتفت إليه، والمعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه عند أهل العلم من قوله: إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في تأويل قوله تعالى}ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان}. فقال جماعة: معنى الإيمان في هذه الآية شرائع الإيمان ومعالمه؛ ذكره الثعلبي. وقيل: تفاصيل هذا الفرع؛ أي كنت غافلا عن هذه التفاصيل. ويجوز إطلاق لفظ الإيمان على تفاصيل الشرع؛ ذكره القشيري: وقيل: ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان؛ ونحوه عن أبي العالية. وقال بكر القاضي: ولا الإيمان الذي هو الفرائض والأحكام. قال: وكان قبل مؤمنا بتوحيده ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل؛ فزاد بالتكليف إيمانا. وهذه الأقوال الأربعة متقاربة. وقال ابن خزيمة: عنى بالإيمان الصلاة؛ لقوله تعالى قلت: الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا بالله عز وجل من حين نشأ إلى حين بلوغه؛ على ما تقدم. وقيل}ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان}أي كنت من قوم أميين لا يعرفون الكتاب ولا الإيمان، حتى تكون قد أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم؛ وهو كقوله تعالى
|